تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٢٨

بأصنامهم فإنهم كانوا يعملون معها ما ينفعها ويحضرون لها المأكل فربما أكلتها الكلاب ثم بالت على الأصنام ، ثم لا يصدهم ذلك عن عبادتها وقيل : في الآية حذف مضاف أي وما أريد أن يطعموا أحدا من خلقي وإنما أسند الإطعام إلى نفسه لأنّ الخلق كلهم عيال الله ومن أطعم عيال الله فقد أطعمه كما صح في الحديث عن أبي هريرة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن الله عزوجل يقول يوم القيامة يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين قال أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده ، أما تعلم أنك لو عدته لوجدتني عنده يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين قال استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه ، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي يا ابن دم استسقيتك فلم تسقني قال يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه ، أما علمت أنك لو أسقيته لوجدت ذلك عندي» (١).

فإن قيل : ما الفائدة في تكرير الإرادتين مع أنّ من لا يريد من أحد رزقا لا يريد أن يطعمه؟ أجيب : بأنّ السيد قد يطلب من العبد المكتسب له الرزق وقد يكون للسيد مال وافر يستغني به عن التكسب لكنه يطلب من العبد قضاء حوائجه وإحضار الطعام بين يديه فقال : لا أريد ذلك ولا هذا وقدم طلب الرزق على طلب الإطعام من باب الارتقاء من الأدنى إلى الأعلى.

فإن قيل : ما فائدة تخصيص الإطعام بالذكر مع أنّ المراد عدم طلب فعل منهم غير التعظيم؟ أجيب : بأنه لما عمم النفي في طلب الأوّل بقوله تعالى (مِنْ رِزْقٍ) وذلك إشارة إلى التعميم فذكر الإطعام ونفى الأدنى ليتبعه بنفي الأعلى بطريق الأولى فكأنه قال : ما أريد منهم من غنى ولا عمل.

فإن قيل : المطالب لا تنحصر فيما ذكره فإنّ السيد قد يشتري العبد لا لطلب رزق منه ولا للتعظيم بل يشتريه للتجارة. أجيب : بأن العموم في قوله تعالى : (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) يتناول ذلك.

ثم بين تعالى أنه الرزاق لا غيره بقوله عز من قائل : (إِنَّ اللهَ) أي : المحيط بجميع صفات الكمال المنزه عن جميع صفات النقص (هُوَ) أي : لا غيره (الرَّزَّاقُ) أي : على سبيل التكرار لكل حيّ وفي كل وقت (ذُو الْقُوَّةِ) أي : التي لا تزول بوجه (الْمَتِينُ) أي : الشديد الدائم.

فإن قيل : لم لم يقل إني رزاق؟ بل قال على الحكاية عن الغائب إنّ الله هو الرزاق فما الحكمة أجيب : بأنّ المعنى قل يا محمد إنّ الله هو الرزاق ، أو يكون من باب الالتفات من التكلم إلى الغيبة ، أو يكون قل مضمرا عند قوله تعالى : (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) ولم يقل القوي بل قال ذو القوّة لأنّ المقصود تقرير ما تقدّم من عدم إرادة الرزق وعدم الاستعانة بالغير ، وقيد بالمتين لأنّ ذو القوّة لا يدل إلا على أنّ له قوّة ما فزاد في الوصف المتانة وهو الذي له ثبات لا يتزلزل ، والمعنى في وصفه سبحانه بالقوة والمتانة أنه القادر البليغ الاقتدار على كل شيء.

ولما أقسم سبحانه على الصدق في وعيدهم إلى أن ختم بقوته التي لا حدّ لها سبب عن ذلك إيقاعه بالمتوعدين فقال تعالى مؤكدا لأجل إنكارهم : (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) أي : أوقعوا الأشياء في غير مواقعها (ذَنُوباً) أي : نصيبا من العذاب طويل الشرّ كأنه من طوله صاحب ذنب (مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ) أي : الذين تقدّم ظلمهم بتكذيب الرسل من قوم نوح وعاد وثمود ، والذنوب في الأصل

__________________

(١) أخرجه مسلم في البر حديث ٢٥٦٩.

١٠١

الدلو العظيمة المملوءة ماء وفي الحديث «فأتى بذنوب من ماء» (١) فإن لم تكن ملأى فهي دلو ثم عبر به عن النصيب قال عمرو بن شاس (٢) :

وفي كل حيّ قد خبطت بنعمة

فحق لشاس من نداك ذنوب

قال الملك : نعم وأذنبه ، قال الزمخشري : وهذا تمثيل أصله في السقاة يتقسمون الماء فيكون لهذا ذنوب ولهذا آخر. قال الشاعر (٣) :

لكم ذنوب ولنا ذنوب

فإن أبيتم فلنا القليب

وقال الراغب الذنوب الدلو لذي له ذنب انتهى.

فراعى الاشتقاق والذنوب أيضا : الفرس الطويل الذنب ، وهو صفة على فعول والذنوب لحم أسفل المتن ويقال : يوم ذنوب أي طويل الشرّ استعارة من ذلك ويجمع في القلة على أذنبة وفي الكثرة على ذنائب (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) أي تطلبوا أن آتيكم به قبل أوانه الأحق به ، فإنّ ذلك لا يفعله إلا ناقص وأنا متعال عن ذلك لا أخاف الفوت ولا يلحقني عجز ولا أوصف به ، ولا بدّ أن أوقعه بهم في الوقت الذي قضيت به في الأزل فإنه أحق الأوقات بعقابهم لتكامل ذنوبهم.

(فَوَيْلٌ) أي شدّة عذاب (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي ستروا ما ظهر من هذه الأدلة التي لا يسع عاقلا إنكارها (مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) أضافه إليهم لأنه خاص بهم دون المؤمنين ، وهو يوم القيامة وقيل يوم بدر وحذف العائد لاستكمال شروطه أي يوعدونه ، وقرأ حمزة والكسائي في الوصل بضم الهاء والميم ، وأبو عمرو بكسر الهاء والميم والباقون بكسر الهاء وضم الميم وأما الوقف عليها فالجميع بكسر الهاء وما رواه البيضاوي تبعا للزمخشري من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من قرأ سورة الذاريات أعطاه الله تعالى عشر حسنات بعدد كل ريح هبت وجرت في الدنيا» (٤) حديث موضوع والله أعلم.

__________________

(١) انظر البخاري في الوضوء باب ٥٨ ، ومسلم في الطهارة حديث ٩٩ ، وأبو دود في الطهارة باب ١٣٦ ، والنسائي في الأشربة باب ٤٨ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٨٢ ، ٣ / ١١١ ، ١٦٧.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لعلقمة الفحل في ديوانه ص ٤٨ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٤٠٠ ، والكتاب ٤ / ٤٧١ ، ولسان العرب (جنب) ، (شأس) ، (خبط) ، ومجالس ثعلب ص ٩٧.

(٣) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (ذنب) ، وتهذيب اللغة ١٤ / ٤٣٩ ، والمخصص ١٧ / ١٨ ، وكتاب العين ٨ / ١٩٠ ، وجمهرة اللغة ص ٣٠٦ ، وتاج العروس (ذنب).

(٤) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٤١٠.

١٠٢

سورة الطور

مكية وهي تسع وأربعون آية وثلاثمائة واثنتا عشرة كلمة وألف وخمسمائة حرف.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الملك الأعظم ذي الملك والملكوت (الرَّحْمنِ) الذي عمّ خلقه بالرحموت (الرَّحِيمِ) الحيّ الذي لا يموت.

(وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤))

وقوله تعالى : (وَالطُّورِ) وما بعده أقسام جوابها (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) والواوات التي بعد الأولى عواطف لا حروف قسم كما قاله الخليل.

والطور : هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه‌السلام وهو بمدين أقسم الله تعالى به وقيل : هو الجبل الذي قال الله تعالى (وَطُورِ سِينِينَ) [التين : ١] وقيل هو اسم جنس.

تنبيه : مناسبة هذه السورة لما قبلها من حيث الافتتاح بالقسم وبيان الحشر فيهما.

والمراد بالكتاب في قوله تعالى (وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) أي : متفق الكتابة بسطور مصفوفة في حروف مرتبة جامعة لكلمات متفقة هو كتاب موسى عليه‌السلام وهو التوراة وقيل : القرآن وقيل : اللوح المحفوظ وقيل : صحائف أعمال الخلق قال تعالى (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) [الإسراء : ١٣].

وقوله تعالى : (فِي رَقٍ) متعلق بمسطور أي مكتوب في رق والرق : الجلد الرقيق يكتب فيه وقال الراغب : الرق ما يكتب فيه شبه كاغد ا. ه. فهو أعمّ من كونه جلدا وغيره (مَنْشُورٍ) أي مبسوط مهيأ للقراءة.

١٠٣

وقوله تعالى : (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) مختلف في مكانه فقيل في السماء العليا تحت العرش وقيل : في السماء الثالثة وقيل في السادسة وعلى كل قول هو بحيال الكعبة يقال له : الضراح حرمته في السماء كحرمة الكعبة في الأرض يدخله كل يوم سبعون ألف ملك يطوفون به ويصلون فيه ثم لا يعودون إليه أبدا ووصفه بالعمارة لكثرة الطائفين به من الملائكة وقيل : هو بيت الله الحرام لكونه معمورا بالحجاج والعمار والمجاورين وقيل : اللام في البيت المعمور لتعريف الجنس كأنه تعالى أقسم بالبيوت المعمورة والعمائر المشهورة.

وقوله تعالى : (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) مختلف فيه أيضا فالأكثر على أنه السماء كما قال تعالى : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) [الأنبياء : ٣٢] وقيل : المراد به سقف الكعبة وقيل : سقف الجنة وهو العرش ونقل عن ابن عباس.

وقوله تعالى : (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) من الأضداد يقال بحر مسجور أي مملوء وبحر مسجور أي فارغ وروى ذو الرمّة الشاعر عن ابن عباس أنه قال خرجت أمة لتستقي فقالت إنّ الحوض مسجور أي فارغ ويؤيد هذا أن البحار يذهب ماؤها يوم القيامة وقيل المسجور الممسوك ومنه ساجور الكلب لأنه يمسكه ويحبسه. وقال محمد بن كعب القرظي يعني بالمسجور الموقد المحمي بمنزلة التنور المسجور وهو قول ابن عباس لما روي أنه تعالى يجعل البحار كلها يوم القيامة نارا فيزاد بها في نار جهنم كما قال تعالى (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) [التكوير : ٦] وعن علي أنه سأل يهوديا أين موضع النار في كتابكم قال : في البحر قال علي : ما أراه إلا صادقا لقوله تعالى (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ،) وعن ابن عمر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يركبن البحر رجل إلا غازيا أو معتمرا أو حاجا فإنّ تحت البحر نارا وتحت النار بحرا» (١) وقال الربيع بن أنس المختلط العذب بالملح. وروى الضحاك عن المنزل بن سمرة عن علي أنه قال : البحر المسجور هو بحر تحت العرش غمره كما بين سبع سموات إلى سبع أرضين فيه ماء غليظ يقال له بحر الحيوان يمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحا فينبتون في قبورهم وهذا قول مقاتل. فإن قيل : ما الحكمة في القسم بهذه الثلاثة أشياء؟ أجيب : بأنّ هذه الأماكن الثلاثة وهي الطور والبيت المعمور والبحر المسجور كانت لثلاثة أنبياء للخلوة بربهم والخلاص من الخلق وخطابهم مع الله تعالى ، أمّا الطور فانتقل إليه موسى عليه‌السلام وخاطب الله سبحانه وتعالى هناك ، وأمّا البيت المعمور فانتقل إليه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال لربه سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ، وأمّا البحر المسجور فانتقل إليه يونس عليه‌السلام ونادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فصارت هذه الأماكن شريفة بهذه الأسباب فأقسم الله تعالى بها. وأمّا ذكر الكتاب فلأن الأنبياء كان لهم مع الله تعالى في هذه الأماكن كلام والكلام في الكتاب.

تنبيه : أقسم الله تعالى في بعض السور بمجموع كقوله تعالى : (وَالذَّارِياتِ) [الذاريات : ١] و (الْمُرْسَلاتِ) [المرسلات : ١] و (وَالنَّازِعاتِ) [النازعات : ١] وفي بعضها بإفراد كقوله تعالى (وَالطُّورِ) ولم يقل والأطوار والأبحار قال الرازي والحكمة فيه أنّ في أكثر الجموع أقسم عليها بالمتحرّكات

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الجهاد حديث ٢٤٨٩ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٤ / ٣٣٤ ، ٦ / ١٨ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٥ / ٢٨٢.

١٠٤

والريح الواحدة ليست بثابتة بل هي متبدلة بأفرادها مستمرّة بأنواعها والمقصود منها لا يحصل إلا بالتبدل والتغير فقال والذاريات إشارة إلى النوع المستمرّ لا إلى الفرد المعين المستقر ، وأمّا الجبل فهو ثابت غير متغير عادة فالواحد من الجبال دائم زمانا ودهرا فأقسم في ذاك بالواحد ، وكذلك في قوله تعالى (وَالنَّجْمِ) [النجم : ١] ولو قال والريح لما علم المقسم به وفي الطور علم.

وقوله تعالى : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ) أي : الذي تولى تربيتك (لَواقِعٌ) أي : ثابت نازل بمستحقه جواب القسم كما مرّ.

(ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) أي : مانع لأنه لا شريك لموقعه لما دلت عليه هذه الأقسام من كمال القدرة وجلال الحكمة قال جبير بن مطعم : قدمت المدينة لأكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أسارى بدر فدفعت إليه وهو يصلي بأصحابه المغرب وصوته يخرج من المسجد فسمعته يقرأ والطور إلى قوله تعالى : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) فكأنما صدع قلبي حين سمعته ولم أكن أسلمت يومئذ فأسلمت خوفا من العذاب وما كنت أظنّ أني أقوم من مكاني حتى يقع بي العذاب.

ثم بين تعالى أنه متى يقع بقوله تعالى (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ) أي : تتحرك وتضطرب وتجيء وتذهب وتدور دوران الرحى ويموج بعضها في بعض وتتكفأ بأهلها تكفؤ السفينة وتختلف أجزاؤها بعضها في بعض. قال البغوي : والمور يجمع هذه المعاني وهو في اللغة الذهاب والمجيء والتردّد والدوران والاضطراب قال الرازي : وقيل تجيء وتذهب كالدخان ثم تضمحل (مَوْراً) أي : اضطرابا شديدا.

(وَتَسِيرُ الْجِبالُ) أي : تنتقل من أمكنتها انتقال السحاب وحقق معناه بقوله تعالى (سَيْراً) فتصير هباء منثورا وتكون الأرض قاعا صفصفا.

ثم بيّن من يقع عليه العذاب بقوله تعالى (فَوَيْلٌ) أي : شدة عذاب (يَوْمَئِذٍ) أي : يوم إذ يكون ما تقدّم ذكره (لِلْمُكَذِّبِينَ) أي : الغريقين في التكذيب للرسل.

(الَّذِينَ هُمْ) من بين الناس بظواهرهم وبواطنهم (فِي خَوْضٍ) أي : أقوالهم وأفعالهم أفعال الخائض في الماء فهو لا يدري أين يضع رجله (يَلْعَبُونَ) فاجتمع عليهم أمران موجبان للباطل الخوض واللعب فهم بحيث لا يكاد يقع لهم قول ولا فعل في موضعه فلا يؤسس على بيان أو حجة.

فإن قيل : أهل الكبائر لا يكذبون فمقتضى ذلك أنهم لا يعذبون. أجيب بأنّ ذلك العذاب لا يقع على أهل الكبائر لقوله تعالى (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا) [الملك : ٨ ـ ٩] فالمؤمن لا يلقى فيها إلقاء هوان وإنما يدخل فيها للتطهير إدخالا مع نوع إكرام فالويل إنما هو للمكذبين.

وقوله تعالى : (يَوْمَ يُدَعُّونَ) بدل من يوم تمور السماء أو من يومئذ قبله تقديره : فويل يومئذ يوم يدعون ، أي : يدفعون دفعا عنيفا بجفوة وغلظة من كل من يقيمه الله تعالى لذلك ذاهبين ومتهيئين (إِلى نارِ جَهَنَّمَ) وهي الطبقة التي تلقاهم بالعبوسة والكراهة وأكد المعنى وحققه بقوله تعالى (دَعًّا)

قال البغوي : وذلك أنّ خزنة جهنم يغلون أيديهم إلى أعناقهم ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ثم يدفعون دفعا على وجوههم وزجا في أقفيتهم مقولا لهم تبكيتا وتوبيخا (هذِهِ النَّارُ)

١٠٥

أي : الجسم المحرق المفسد لما أتى عليه الشاغل عن اللعب (الَّتِي كُنْتُمْ بِها) في الدنيا (تُكَذِّبُونَ) على التجدّد والاستمرار.

وقوله تعالى : (أَفَسِحْرٌ) خبر مقدّم وقوله تعالى (هذا) هو المبتدأ وقدّم الخبر لأنه المقصود بالإنكار والتوبيخ ، وذلك أنهم كانوا ينسبون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى السحر وأنه يغطي الأبصار بالسحر وأنّ انشقاق القمر وأمثاله سحر فوبخوا به ، وقيل لهم : (أَفَسِحْرٌ هذا) أي الذي أنتم فيه من العذاب مع هذا الإحراق الذي تصلون فيه (أَمْ أَنْتُمْ) في منام أو نحوه (لا تُبْصِرُونَ) بالقلوب كما كنتم تقولون في الدنيا قلوبنا في أكنة ، ولا بالأعين كما كنتم تقولون للمنذر (بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) [فصلت : ٥].

(اصْلَوْها) أي : إذا لم يمكنكم إنكارها وتحققتم أنه ليس بسحر ولا خلل في أبصاركم فقاسوا شدّتها (فَاصْبِرُوا) على هذا الذي لا طاقة لكم به (أَوْ لا تَصْبِرُوا) فإنه لا محيص لكم عنه (سَواءٌ عَلَيْكُمْ) أي : الصبر والجزع فإنّ صبركم لا ينفعكم. وقوله تعالى : (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) تعليل للاستواء فإنه لما كان الجزاء واجبا كان الصبر وعدمه سيين في عدم النفع.

ولما ذكر ما للمكذبين من العذاب أتبعه ما لأضدادهم من الثواب فقال تعالى (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) أي : الذين صارت التقوى لهم صفة راسخة (فِي جَنَّاتٍ) أي : بساتين أية بساتين دائما في الدنيا حكما وفي الآخرة حقيقة (وَنَعِيمٍ) أيّ : نعيم في العاجل يعني بما لهم فيه من الأنس وفي الآجل بالفعل.

وزاد في تحقيق التنعم بقوله تعالى (فاكِهِينَ) أي : متلذذين معجبين ناعمين (بِما آتاهُمْ) أي : أعطاهم (رَبُّهُمْ) الذي تولى تربيتهم بعملهم بالطاعات إلى أن أوصلهم إلى هذا النعيم (وَوَقاهُمْ) أي : قبل ذلك (رَبُّهُمْ) أي : المتفضل بتربيتهم بكفهم عن المعاصي والقاذورات (عَذابَ الْجَحِيمِ) أي النار الشديدة التوقد.

ولما كان من باشر النعمة وجانب النقمة في غنى عظيم قال مترجما لذلك على تقدير القول

(كُلُوا) أي : أكلا هنيئا (وَاشْرَبُوا) أي : شربا (هَنِيئاً) وهو الذي لا تنغيص فيه فكل ما تتناولونه مأمون العاقبة من التخم والسقم وغيرهما (بِما) أي : بسبب ما (كُنْتُمْ) أي : كونا راسخا (تَعْمَلُونَ) أي : مجددين العمل على سبيل الاستمرار حتى كأنه طبع لكم.

ثم نبه على أنهم مع هذا النعيم مخدومون بقوله تعالى (مُتَّكِئِينَ) أي : مستندين استناد راحة لأنهم يخدمون فلا حاجة لهم إلى الحركة (عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ) أي : منصوبة واحدا إلى جنب واحد مستوية كأنها الستور على أحسن نظام وأبدعه.

ثم نبه على تمام سرورهم بالتمتع بالنساء بقوله تعالى (وَزَوَّجْناهُمْ) أي : تزويجا يليق بما لنا من العظمة أي صيرناهم ممتعين (بِحُورٍ) أي : نساؤهنّ في شدّة بياض العين وسوادها واستدارة حدقتها ورقة جفونها في غاية حسن لا توصف (عِينٍ) أي : واسعات الأعين في رونق وحسن.

تنبيه : اعلم أنه تعالى بين أسباب التنعم على الترتيب فأوّل ما يكون المسكن وهو الجنان ، ثم الأكل والشرب ثم الفرش والبسط ثم الأزواج فهذه أمور أربعة ذكرها الله تعالى على الترتيب ، وذكر في كل واحد منها ما يدل على كماله فقوله : (جَنَّاتٍ) إشارة إلى المسكن وقال (فاكِهِينَ) إشارة إلى عدم التنغيص وعلوّ المرتبة لكونه مما آتاهم الله. وقال : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً) أي

١٠٦

مأمون العاقبة وترك ذكر المأكول والمشروب دلالة على تنويعهما وكثرتهما. وقوله تعالى (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) إشارة إلى أنه تعالى يقول : إني مع كوني ربكم وخالقكم وأدخلتكم الجنة بفضلي فلا منة لي عليكم اليوم وإنما منتي عليكم كانت في الدنيا هديتكم ووفقتكم للأعمال الصالحة كما قال تعالى (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) [الحجرات : ١٧] وأمّا اليوم فلا منة عليكم لأنّ هذا إنجاز الوعد.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي : أقرّوا بالإيمان وإن لم يبالغوا في الأعمال الصالحة مبتدأ وقرأ أبو عمرو وأتبعناهم أي بما لنا من الفضل الناشىء عن العظمة بقطع الهمزة وسكون التاء الفوقية وسكون العين وبعد العين نون مفتوحة بعدها ألف والباقون بهمزة وصل محذوفة وتشديد التاء الفوقية وفتح العين وبعدها تاء فوقية ساكنة وهو معطوف على آمنوا (ذُرِّيَّتُهُمْ) أي : الصغار والكبار فالكبار بإيمانهم بأنفسهم والصغار بإيمان آبائهم ، فإنّ الولد الصغير يحكم بإسلامه تبعا لأحد أبويه (بِإِيمانٍ) أي بسبب إيمان حاصل منهم ولو كان في أدنى درجات الإيمان ولكنهم ثبتوا عليه إلى أن ماتوا وذلك شرط اتباعهم الذريات قال البقاعي : ويجوز أن يراد وهو أقرب بسبب إيمان الذرّية حقيقة إن كانوا كبارا أو حكما إن كانوا صغارا ، ثم أخبر عن الموصول المبتدأ بقوله تعالى : (أَلْحَقْنا بِهِمْ) تفضلا منا عليهم (ذُرِّيَّتُهُمْ) وإن لم يكن للذرّية أعمال لأنه (١) :

لعين تجازى ألف عين وتكرم

والذريات هنا تصدق على الآباء وعلى الأبناء وإنّ المؤمن إذا كان عمله أكثر ألحق به من دونه في العمل ابنا كان أو أبا وهو منقول عن ابن عباس وغيره ، ويلحق بالذرّية من النسب الذرّية بالسبب وهو المحبة فإن كان معها أخذ لعلم أو عمل كانت أجدر فتكون ذرية الإفادة كذرّية الولادة وذلك لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المرء مع من أحبّ» (٢) في جواب من سأل عمن يحب القوم ولما يلحق بهم ، وقرأ (ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ) وألحقنا بهم ذرياتهم نافع بالقصر في الأولى والجمع في الثانية مع كسر التاء ، وقرأ ابن كثير والكوفيون بالقصر فيهما مع ضم التاء ، وقرأ أبو عمرو بالجمع فيهما مع كسر التاء ، وقرأ ابن عامر بالجمع فيهما إلا أنه يرفع التاء في الأولى ويكسرها في الثانية.

فإن قيل : قوله تعالى أتبعناهم ذرياتهم يفيد فائدة قوله تعالى ألحقنا بهم ذرياتهم أجيب بأنّ قوله تعالى (أَلْحَقْنا بِهِمْ) أي في الدرجات والإتباع إنما هو في حكم الإيمان وإن لم يبلغوه كما مرّ ثم أشار إلى عدم نقصان المتبوع بقوله تعالى (وَما أَلَتْناهُمْ) أي : ما نقصنا المتبوعين (مِنْ عَمَلِهِمْ) وأكد النفي بقوله تعالى (مِنْ شَيْءٍ) أي : بسبب هذا الإلحاق.

ولما بين تعالى اتباع الأدنى للأعلى في الخير ، بين أنّ الأدنى لا يتبع الأعلى في الشرّ بقوله تعالى : (كُلُّ امْرِئٍ) من الذين آمنوا والمتقين وغيرهم (بِما كَسَبَ) أي : عمل من خير أو شرّ (رَهِينٌ) أي : مرهون يؤخذ بالشر ويجازى بالخير وقال مقاتل : كل امرئ كافر بما عمل من الشرك

__________________

(١) الشطر لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

(٢) أخرجه البخاري في الأدب حديث ٦١٦٨ ، ومسلم في البر حديث ٢٦٤١ ، وأبو داود في الأدب حديث ٥١٢٧ ، والترمذي في الزهد حديث ٢٣٨٥ ، ٢٣٨٦ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٩٢ ، ٣ / ١٠٤ ، ١١٠ ، ١٥٩ ، ٢٠٠ ، ٢١٣ ، ٢٢٢ ، ٢٢٨ ، ٢٦٨.

١٠٧

رهين في النار ، والمؤمن لا يكون مرتهنا لقوله تعالى (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) [المدثر : ٣٨ ـ ٣٩] وقال الواحدي : هذا يعود إلى ذكر أهل النار وهو قول مجاهد أيضا قال الرازي : وفيه وجه آخر وهو أن يكون الرهين فعيلا بمعنى الفاعل فيكون المعنى كل امرئ راهن أي دائم إن أحسن ففي الجنة مؤبدا وإن أساء ففي النار مخلدا ؛ لأنّ في الدنيا دوام الأعمال بدوام الأعيان ، فإنّ العرض لا يبقى إلا في جوهر ولا يوجد إلا فيه ، وفي الآخرة دوام الأعيان بدوام الأعمال فإنّ الله تعالى يبقي أعمالهم لكونها عند الله تعالى من الباقيات الصالحات وما عند الله باق والباقي يبقى مع عمله.

(وَأَمْدَدْناهُمْ) أي : الذين آمنوا والمتقين ومن ألحق بهم من ذرياتهم بما لنا من العظمة (بِفاكِهَةٍ) وقتا بعد وقت زيادة على ما تقدم ، ولما كانت الفاكهة ظاهرة فيما نعرفه في الدنيا وإن كان عيش الجنة بجميع الأشياء تفكها ليس فيه شيء يقصد به حفظ البدن قال تعالى : (وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) من أنواع اللحمان والمعنى : زدناهم مأكولا ومشروبا فالمأكول الفاكهة واللحم ، والمشروب الكأس وفي هذا لطيفة : وهي أنه تعالى لما قال (وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ونفى النقصان يصدق بحصول المساوي فقال ليس عدم النقصان بالاقتصار على المساوي بل بالزيادة والإمداد.

وقوله تعالى : (يَتَنازَعُونَ) في موضع نصب على الحال من مفعول أمددناهم ويجوز أن يكون مستأنفا وقوله تعالى : (فِيها) يجوز أن يعود الضمير لشربها ويجوز أن يعود للجنة ومعنى يتنازعون يتعاطون ، ويحتمل أن يقال : التنازع التجاذب ويكون تجاذبهم تجاذب ملاعبة لا تجاذب منازعة وفيه نوع لذة لأنهم يفعلون ذلك هم وجلساؤهم من أقربائهم وإخوانهم (كَأْساً) أي : خمرا من رقة حاشيتها تكاد أن لا ترى في كأسها (لا لَغْوٌ) أي : لا سقط حديث وهو ما لا ينفع من الكلام ولا يضر (فِيها) أي : في تنازعها ولا بسببها لأنها لا تذهب بعقولهم فلا يتكلمون إلا بالحسن الجميل بخلاف المتنادمين في الدنيا على الشراب بسفههم وعربدتهم (وَلا تَأْثِيمٌ) أي : لا يكون منهم ما يؤثمهم وقال الزجاج : لا يجري منهم ما يلغى ولا ما فيه إثم كما يجري في الدنيا لشربة الخمر قال الرازي : ويحتمل أن يكون المراد من التأثيم السكر وقيل : لا يأثمون في شربها ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بنصب لغو وتأثيم من غير تنوين ، والباقون بالرفع فيهما مع التنوين.

ولما كانت المعاطاة لا يكمل بسطها ويعظم أنسها إلا بخدم وسقاة قال تعالى : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ) بالكؤوس وغيرها من أنواع التحف (غِلْمانٌ) أي : أرقاء ، ولما كان أحب مال إلى الإنسان ما يختص به قال تعالى : (لَهُمْ) ولم يقل تعالى غلمانهم لئلا يظنّ أنهم الذين كانوا يخدمونهم في الدنيا فيشفق كل من خدم أحدا في الدنيا بقول أو فعل أن يكون خادما له في الجنة فيحزن بكونه لا يزال تابعا ، وأفاد التنكير أنّ كل من دخل الجنة وجد له خدما لم يعرفهم قبل ذلك (كَأَنَّهُمْ) في بياضهم وشدّة صفائهم (لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) أي : مخزون مصون لم تمسه الأيدي. قال سعيد بن جبير يعني في الصدف لأنه فيها أحسن منه في غيره أو مصون في الجنة لم تغيره العوارض. قال عبد الله بن عمر : ما من أحد من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألف غلام وكل غلام على عمل ما عليه صاحبه ، هذه صفة الخادم وأمّا المخدوم فروي عن الحسن أنه لما تلا هذه الآية قال يا رسول الله : الخادم كاللؤلؤ المكنون فكيف المخدوم ، قال «فضل المخدوم على الخادم»

١٠٨

«كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» (١) وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدامة فيجيبه ألف بندائه لبيك لبيك» (٢) وقرأ السوسي وشعبة لولو بالبدل والباقون بالهمز.

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨) فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩))

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ) لما ازدهاهم من السرور واللذة والحبور (عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) أي : يسأل بعضهم بعضا في الجنة قال ابن عباس : يتذاكرون ما كانوا فيه من التعب والخوف في الدنيا.

(قالُوا) أي : قال كل منهم (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ) أي : في دار العمل (فِي أَهْلِنا) على ما لهم من العدد والعدد والسعة ، ولنا بهم من جوانب اللذة والدواعي إلى اللعب (مُشْفِقِينَ) أي : عريقين في الخوف من الله تعالى لا يلهينا عنه شيء مع لزومنا لما نقدر عليه من طاعته لعلمنا بأنا لا نقدره لما له من العظمة والجلال والكبرياء والكمال حق قدره ، والمعنى : أنهم يسألون عن سبب ما وصلوا إليه تلذذا واعترافا بالنعمة فيقولون ذلك خشية الله تعالى أي كنا نخاف الله تعالى.

(فَمَنَّ اللهُ) الذي له جميع الكمال بسبب إشفاقنا منه (عَلَيْنا) بالرحمة والتوفيق (وَوَقانا) أي : وجنبنا بما سترنا به (عَذابَ السَّمُومِ) قال الكلبيّ : عذاب النار ، وقال الحسن : السموم من أسماء جهنم ، والسموم في الأصل الريح الحارة التي تتخلل المسام والجمع سمائم. يقال : سمّ يومنا أي اشتدّ حره ، وقال ثعلب : السموم شدة الحرّ أو شدة البرد في النهار ، وقال أبو عبيدة : سموم بالنهار وقد تكون بالليل ، والحرور بالليل وقد تكون بالنهار.

(إِنَّا كُنَّا) أي : بما طبعنا عليه وهيئنا له (مِنْ قَبْلُ) أي : في الدنيا (نَدْعُوهُ) أي : نسأله ونعبده بالفعل وأمّا خوفنا بالقوة فقد كان في كل حركة وسكون ، ثم عللوا دعاءهم إياه مؤكدين لأنّ أنعامه عليهم مع تقصيرهم مما لا يكاد يفعله غيره فهو مما يتعجب منه غاية التعجب بقولهم : (إِنَّهُ هُوَ) أي : وحده ، وقرأ نافع والكسائي بفتح الهمزة والباقون بكسرها (الْبَرُّ) أي : الواسع الجود

__________________

(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

(٢) أخرجه القرطبي في تفسيره ١٧ / ٦٩ ، وابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١٦٠.

١٠٩

الذي عطاؤه حكمة ومنعه رحمة لأنه لا ينقصه إعطاء ولا يزيده منع ، فهو يبر عبده المؤمن بما يوافق نفسه فربما برّه بالنعمة وربما برّه بالبؤس فهو يختار له من الأحوال ما هو خير له ليوسع له البرّ في العقبى فعلى المؤمن أن لا يتهم ربه في شيء من قضائه (الرَّحِيمُ) أي : المكرم لمن أراد من عباده بإقامته فيما يرضاه من طاعته ثم بإفضاله عليه وإن قصر في خدمته.

ولما بين تعالى أنّ في الوجود قوما يخافون الله تعالى ويشفقون في أهليهم والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مأمور بتذكير من يخاف الله تعالى لقوله تعالى : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) [ق : ٤٥] فوجب التذكير. فلذلك قال تعالى : (فَذَكِّرْ) أي : عظ يا أشرف الخلق بالقرآن ودم على ذلك ولا ترجع عنه لقول المشركين لك كاهن ومجنون (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) أي : بسبب ما أنعم به عليك المحسن إليك من هذا الناموس الأعظم بعد تأهيلك له بما هيأك به من رجاحة العقل وعلوّ الهمة وكرم الفعال وجود الكف وطهارة الأخلاق ، وجعلك أشرف الناس عنصرا وأكملهم نفسا وأزكاهم خلقا وهم معترفون لك بذلك قبل النبوّة. وأكد النفي بقوله تعالى : (بِكاهِنٍ) أي : تقول كلاما مع كونه سجعا متكلفا أكثره فارغ وتحكم على المغيبات من غير وحي (وَلا مَجْنُونٍ) أي : تقول كلاما لا نظام له مع الإخبار ببعض المغيبات فلا يفترك قولهم هذا عن التذكير فإنه قول باطل لا تلحقك به معرة أصلا ، وعما قليل يكون عيبا لهم لا يغسله عنهم إلا اتباعهم لك فمن اتبعك منهم غسل عاره ومن استمرّ على عناده استمرّ تبابه وخساره.

تنبيه : نزلت هذه الآية في الذين اقتسموا عقاب مكة يرمون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالكهانة والسحر والجنون والشعر.

(أَمْ يَقُولُونَ) أي : هؤلاء المقتسمون (شاعِرٌ) أي : هو شاعر قال الثعلبي : قال الخليل : كل ما في سورة والطور من أم فاستفهام وليس بعطف ، وقال أبو البقاء : أم في هذه الآيات منقطعة وتقدم الخلاف في المنقطعة هل تقدر ببل وحدها أو ببل والهمزة أو بالهمزة وحدها ، والصحيح الثاني. وقال مجاهد : في قوله تعالى : (أَمْ تَأْمُرُهُمْ) [الطور : ٣٢] تقديره : بل تأمرهم (نَتَرَبَّصُ) أي ننتظر (بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) أي : حوادث الدهر وتقلبات الزمان لأنها لا تدوم على حال كالريب وهو الشك فإنه لا يبقى بل هو متزلزل قال الشاعر (١) :

تربص بها ريب المنون لعلها

تطلق يوما أو يموت حليلها

وقال أبو ذئب (٢) :

أمن المنون وريبها تتوجع

والدهر ليس بمعتب من يجزع

والمنون في الأصل : الدهر ، وقال الراغب : المنون المنية لأنها تنقص العدد وتقطع المدد ، والمعنى : بل يقولون يعني هؤلاء المقتسمين الخراصين شاعر نتربص به ريب المنون حوادث الدهر وصروفه ، وذلك أنّ العرب كانت تحترز عن إيذاء الشعراء فإنّ الشعر كان عندهم يحفظ ويدوّن

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في لسان العرب (ربص) ، وتاج العروس (ربص).

(٢) البيت من الكامل ، وهو لأبي ذؤيب الهذلي في إنباه الرواة ١ / ٢٨٧ ، وخزانة الأدب ١ / ٤٢٠ ، وسمط اللآلي ص ٤٤٩ ، وشرح أشعار الهذليين ١ / ٤ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٥٠٥ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٢٦٢ ، ولسان العرب (منن) ، والمقاصد النحوية ٣ / ٤٩٣.

١١٠

فقالوا لا نعارضه في الحال مخافة أن يغلبنا بقوة شعره وإنما نصبر ونتربص موته ويهلك كما هلك من قبله من الشعراء وتتفرّق أصحابه فإنّ أباه مات شابا ونحن نرجو أن يكون موته كموت أبيه ، والمنون يكون بمعنى الدهر وبمعنى الموت سميا بذلك لأنهما يقطعان الأجل.

ثم إنه تعالى أمر نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (قُلْ) أي : لهؤلاء البعداء (تَرَبَّصُوا) أي انتظروا بي الموت ولم يعرج على محاججتهم في قولهم هذا تنبيها على أنه من السقوط بمنزلة ما لا يحتاج معه إلى ردّ بمجادلة ، ثم سبب عن أمره لهم بالتربص قوله : (فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) أي : العريقين في التربص وإن ظننتم خلاف ذلك وأكده تنبيها على أنه يرجو الفرج بمصيبتهم كما يرجون الفرج بمصيبته ، وأشار بالمعية إلى أنه مساو لهم في ذلك وإن ظنوا لكثرتهم وقوّتهم ووحدته وضعفه أن الأمر بخلاف ذلك.

قال القشيري : جاء في التفسير أنّ جميعهم أي الذين تربصوا به ماتوا قال ولا ينبغي لأحد أن يؤمل نفاق سوقه بموت أحد لتنتهي النوبة إليه فقلّ من تكون هذه صفاته إلا وسبقته المنية ولا يدرك ما تمناه من الأمنية.

فإن قيل : هذا أمر للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولفظ الأمر يوجب المأمور به أو يبيحه ويجوّزه وتربصهم كان حراما. أجيب : بأنّ ذلك ليس بأمر وإنما هو تهديد أي تربصوا ذلك فإني متربص الهلاك بكم كقول الغضبان لعبده افعل ما شئت فإني لست عنك بغافل.

(أَمْ تَأْمُرُهُمْ) أي : تزين لهم تزيينا يصير ما لهم إليه من الانبعاث كالأمر (أَحْلامُهُمْ) أي عقولهم التي يزعمون أنهم اختصوا بجودتها دون الناس بحيث إنه كان يقال فيهم أولو الأحلام والنهى ، فأزرى الله تعالى بعقولهم حين لم تتم لهم معرفة الحق من الباطل وذلك أنّ الأشياء لا يعبأ بها إلا إن تزينت بعقل أو نقل فقال : هل ورد أمر سمعي أم عقولهم تأمرهم (بِهذا) أي : قولهم له ساحر كاهن مجنون وقيل : إلى عبادة الأوثان ، وقيل : إلى التربص أي لا تأمرهم بذلك (أَمْ) أي بل (تَأْمُرُهُمْ) بظواهرهم وبواطنهم (قَوْمٌ) ذوو قوة على ما يحاولونه فهم لذلك (طاغُونَ) أي : مفترون ويقولون ما لا دليل عليه سمعا ولا مقتضى له عقلا ، والطغيان مجاوزة الحدّ في العصيان وكذلك كل شيء مكروه ظاهر قال تعالى : (لَمَّا طَغَى الْماءُ) [الحاقة : ١١].

تنبيه : اعلم أنّ قوله تعالى : (أَمْ تَأْمُرُهُمْ) متصل تقديره : أأنزل عليهم ذكر أم تأمرهم أحلامهم بهذا ، وفي هذه الآية إشارة إلى أنّ كل ما لا يكون على وفق العقل لا ينبغي أن يقال ، وإنما ينبغي أن يقال ما يجب قوله عقلا والأحلام جمع حلم وهو العقل فهما من باب واحد من حيث المعنى ، لأنّ العقل يضبط المرء فيكون كالبعير المعقول لا يتحرّك من مكانه والحلم من الاحتلام وهو أيضا سبب وقار المرء وثباته لأنّ الحلم في أصل اللغة هو ما يراه النائم فينزل ويلزم الغسل الذي هو سبب البلوغ وعنده يصير الإنسان مكلفا ، فالله تعالى من لطيف حكمته قرن الشهوة بالعقل وعند ظهور الشهوة يكمل العقل ويكلف صاحبه فأشار تعالى إلى العقل بالإشارة إلى ما يقارنه وهو الحلم ليعلم أنه يريد به كمال العقل.

(أَمْ يَقُولُونَ) ما هو أفحش عارا من التناقض (تَقَوَّلَهُ) أي : تكلف قوله من عند نفسه كذبا وليس بشعر ولا كهانة ولا جنون وهم على كثرتهم وإلمام بعضهم بالعلم وعراقة آخرين في الشعر والخطب والترسل والسجع يعجزون عن مثله بل عن مثل شيء منه.

١١١

تنبيه : التقوّل تكلف القول ولا يستعمل إلا في الكذب وهذا أيضا متصل بقوله تعالى (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ) تقديره أم يقولون شاعر أم يقولون تقوّله والمعنى ليس الأمر كما زعموا (بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) بالقرآن استكبارا.

ثم ألزمهم الحجة وأبطل جميع الأقسام. فقال عز من قائل : (فَلْيَأْتُوا) أي : على أيّ تقدير أرادوه (بِحَدِيثٍ) أي : كلام مفرق مجدّد إتيانه مع الأزمان (مِثْلِهِ) أي القرآن في البلاغة وصحة المعاني والإخبار بالمغيبات مما كان أو يكون على ما هي عليه لا نكلفهم أن يأتوا به جملة.

فإن قيل : الصفة تتبع الموصوف في التعريف والتنكير ، والموصوف هنا حديث وهو منكر ومثله مضاف إلى القرآن والمضاف إلى القرآن معرّف فكيف هذا. أجيب : بأنّ مثلا وغيرا لا يتعرّفان بالإضافة وذلك أن غيرا ومثلا وأمثالهما في غاية التنكير لأنك إذا قلت : مثل زيد يتناول كل شيء فإنّ كل شيء مثل زيد في شيء فالحمار مثله في الجسم والحجم والإمكان ، والنبات مثله في النموّ والنشء والذبول والفناء ، والحيوان مثله في الحركة والإدراك وغيرهما من الأوصاف وأمّا غير فهو عند الإضافة ينكر وعند قطع الإضافة ربما يتعرف فإنك إذا قلت : غير زيد صار في غاية الإبهام فإنه يتناول أمورا لا حصر لها وأما إذا قطعت غير عن الإضافة فربما يكون الغير والمغايرة من باب واحد وكذلك التغير فتجعل الغير كأسماء الأجناس وتجعله مبتدأ أو تريد به معنى معينا.

تنبيه : قالت المعتزلة : الحديث محدث والقرآن سماه حديثا فيكون محدثا ، وأجيبوا : بأنّ الحديث اسم مشترك يقال للمحدث والمنقول ولهذا يصح أن يقال هذا حديث قديم أي متقادم العهد لا بمعنى سلب الأولية وذلك لا نزاع فيه. قال بعض العلماء : وهذا أمر تعجيز ، قال الرازي : والظاهر أنّ الأمر ههنا على حقيقته لأنه لم يقل ائتوا مطلقا بل قال تعالى : (إِنْ كانُوا) أي : كونا هم راسخون فيه (صادِقِينَ) أي : في أنه تقوله من عند نفسه كما يزعمون فهو أمر معلق على شرط إذا وجد ذلك الشرط يجب الإتيان به وأمر التعجيز كقوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) [البقرة : ٢٥٨] وفي هذا تشنيع عليهم سواء ادعوا أنه مجنون أم شاعر أم كاهن أم غير ذلك ، لأنّ العادة تحيل أن يأتي واحد من قوم وهو مساو لهم بما لا يقدرون كلهم على مثله ، والعاقل لا يجزم بشيء إلا وهو عالم به ويلزم من علمهم بذلك قدرتهم على مثل ما يأتي به ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثلهم في الفصاحة والبلد والنسب وبعضهم يزيد عليه بالكتابة وقول الشعر ومخالطة العلماء ومزاولة الخطب والرسائل وغير ذلك فلا يقدر على ما يعجزون عنه إلا بتأييد إلهي وهو المراد من تكذيبهم.

(أَمْ خُلِقُوا) أي : وقع خلقهم على هذه الكيفية المتقنة (مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) أي : خالق خلقهم فوجدوا بلا خالق وذلك مما لا يجوز أن يكون لأنّ تعلق الخلق بالخالق من ضرورة الاسم فإن أنكروا الخالق لم يجز أن يوجدوا بلا خالق (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) لأنفسهم وذلك في البطلان أشدّ ، لأنّ ما لا وجود له كيف يخلق فإذا بطل الوجهان قامت الحجة عليهم بأنّ لهم خالقا وهو الله تعالى فلم لا يوحدونه ويؤمنون به وبرسوله وبكتابه وقال الزجاج : معناه أخلقوا باطلا لا يحاسبون ولا يؤمنون وقال ابن كيسان : أخلقوا عبثا وتركوا سدى لا يؤمرون ولا ينهون كقول القائل : فعلت كذا وكذا من غير شيء ، أي : لغير شيء أم هم الخالقون لأنفسهم فلا يجب عليهم لله أمر. وقيل : معناه أخلقوا من غير أب وأم.

١١٢

تنبيه : لا خلاف أنّ أم هنا ليست بمعنى بل لكن أكثر المفسرين على أن المراد ما يقع في صدر الكلام من الاستفهام بالهمزة كأنه يقول أخلقوا من غير شيء قال الرازي : ويحتمل أن يقال هو على أصل الوضع للاستفهام الذي يقع في أثناء الكلام وتقديره : أخلقوا من غير شيء أم هم الخالقون.

(أَمْ خَلَقُوا) أي : على وجه الشركة (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) فهم بذلك عالمون بما فيهما على وجه الإحاطة واليقين ، حتى علموا أنك تقوّلته ليصير لهم ردّه والتهكم عليه (بَلْ لا يُوقِنُونَ) أي : ليس لهم نوع يقين وإلا لآمنوا برسوله وكتابه.

(أَمْ عِنْدَهُمْ) أي : خاصة دون غيرهم (خَزائِنُ رَبِّكَ) أي : المحسن إليك بإرسالك فيعلموا أنّ هذا الذي أتيت به ليس من قول الله تعالى فيصح قولهم إنك تقوّلته (أَمْ هُمُ) أي : لا غيرهم (المسيطرون) أي : الرقباء الحافظون المتسلطون الجبارون الرؤساء الحكام الكتبة ليكونوا ضابطين للأشياء كلها ، كما هو شأن كتاب السرّ عند الملوك فيعلمون أنك تقوّلت هذا الذكر لأنهم لم يكتبوا به إليك.

(أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ) يصعدون به إلى السماء (يَسْتَمِعُونَ) أي : يتعمدون السماع لكل ما يكون فيها ومنها (فِيهِ) أي : صاعدين في ذلك السلم إلى كلام الملائكة وما يوحي إليهم من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كائن (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ) أي : مدعي الاستماع (بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي : بحجة بينة واضحة.

وأشبه هذا الزعم زعمهم أنّ الملائكة بنات الله قال تعالى : (أَمْ لَهُ الْبَناتُ) أي : بزعمكم (وَلَكُمُ الْبَنُونَ) أي : خاصة لتكونوا أقوى منه فتكذبوا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتردوا قوله من غير حجة فتكونوا آمنين من عذاب يأتيكم منه لضعفه وقوّتكم.

(أَمْ تَسْأَلُهُمْ) أي : أيها الطاهر الشيم البعيد عن مواقع التهم (أَجْراً) على إبلاغ ما أتيتهم به (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ) أي : غرم لك ولو قلّ ، والمغرم التزام ما لا يجب (مُثْقَلُونَ) فهم لذلك يكذبون من كان سببا في هذا الثقل بغير مستند ليستريحوا مما جره لهم من الثقل.

(أَمْ عِنْدَهُمُ) أي : خاصة بهم (الْغَيْبُ) أي : علم ما غاب عنهم (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) أي :

يجدّدون للناس كتابة جميع ما غاب عنهم مما ينفعهم ويضرّهم حتى يحسدوك فيما شاركتهم به منه فيردوه لذلك وينسبوك إلى ما نسبوك إليه مما يعلم كل أحد نزاهتك عنه وبعدك منه. وقال ابن عباس معناه أم عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه ويخبرون الناس به. واللام في الغيب لا للعهد ولا لتعريف الجنس بل المراد نوع الغيب ، كما تقول اشتر اللحم تريد بيان الحقيقة لا كل لحم ولا لحما معينا.

(أَمْ يُرِيدُونَ) أي : بهذا القول الذي يرمونك به (كَيْداً) أي : مكرا وضررا عظيما ليهلكوك به (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) وكان الأصل فهم ، ولكنه قال تعميما وتعليقا للحكم بالوصف (هُمُ) أي خاصة (الْمَكِيدُونَ) أي : المغلوبون المهلكون فإنهم مكروا به في دار الندوة فحفظه الله تعالى منهم ثم أهلكهم ببدر عند انتهاء سنين عدتها عدّة ما هنا من أم وهي خمس عشرة مرة ، لأنّ بدرا كانت في الثانية من الهجرة وهي الخامسة عشر من النبوّة فقد سبب الله تعالى فيها من الأسباب ما أوجب سعيهم إلى هلاكهم بأمور خارقة للعادة ، فلو كانت لهم بصائر لكفتهم في الهداية والردّ عن الضلالة والغواية.

١١٣

(أَمْ لَهُمْ إِلهٌ) أي : يمنعهم من التصديق بكتابنا أو يستندون إليه للأمان من عذابنا (غَيْرُ اللهِ) أي : الذي أحاط بجميع صفات الكمال (سُبْحانَ اللهِ) الملك الأعظم الذي تعالى عن أن يداني جنابه شائبة نقص (عَمَّا يُشْرِكُونَ) من الأصنام وغيرها.

تنبيه : الاستفهام بأم في مواضعها للتقبيح والتوبيخ ، ولما بين تعالى فساد أقوالهم وسقوطها أشار إلى أنهم لم يبق لهم عذر فإنّ الآيات والحجج قد ظهرت ولم يؤمنوا فبعد ذلك استحقوا الانتقام.

وقوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا) أي : معاينة (كِسْفاً) أي : قطعة وقيل قطعا واحدتها كسفة مثل سدرة وسدر (مِنَ السَّماءِ) جهارا نهارا (ساقِطاً يَقُولُوا) جواب لقولهم (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) كأن الله تعالى يقول لو عذبناهم بسقوط قطعة من السماء عليهم لم ينتهوا عن قولهم ويقولون لمعاندتهم : هذا (سَحابٌ) فإن قيل لهم هو مخالف للسحاب بصلابته وغلظته قالوا (مَرْكُومٌ) أي : مركب بعضه على بعض فتلبد وتصلب.

وقوله تعالى : (فَذَرْهُمْ) أي : اتركهم على شر أحوالهم كقوله تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) [السجدة : ٣٠] وقوله تعالى : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) [الصافات : ١٧٤] إلى غير ذلك فقيل : كلها منسوخة بآية القتال قال ابن عادل وهو ضعيف وإنما المراد التهديد كقول السيد لعبده الجاني لمن يصحبه دعه فإنه سينال جنايته (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ) أي : لا في غيره لأنّ ما حكمنا به لا يتقدم ولا يتأخر (يُصْعَقُونَ) أي : يموتون من شدة الأهوال وعظم الزلزال كما صعق بنو إسرائيل في الطور ، ولكن لا نقيمهم كما أقمنا أولئك إلا عند النفخ في الصور لنحشرهم للحساب الذي يكذبون به.

قال البقاعي : والظاهر أنّ هذا اليوم يوم بدر فإنهم كانوا قاطعين بالنصر فيه فما أغنى أحد منهم عن أحد شيئا كما قال أبو سفيان بن الحارث : ما هو إلا أنا لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاؤوا ويأسروننا كيف شاؤوا.

وقوله تعالى : (يَوْمَ لا يُغْنِي) أي : بوجه من الوجوه بدل من يومهم (عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ) أي : الذي يرمونه بهذه الأقوال المتناقضة (شَيْئاً) من الإغناء في دفع شيء يكرهونه من الموت ولا غيره كما يظنون أنه يغني عنهم في غير ذلك من أحوال هذه الدار (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي : يتجدد لهم نصر ما في ساعة ما يمنعهم من العذاب.

وقوله تعالى : (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) يجوز أن يكون من إيقاع الظاهر موضع المضمر وأن لا يكون ، والمعنى : وإنّ للذين أوقعوا الأشياء في غير مواقعها كما يقولونه في القرآن ويفعلونه من العصيان ويعتقدونه من الشرك والبهتان (عَذاباً دُونَ ذلِكَ) أي : غير عذاب ذلك اليوم قال ابن عباس : يعني القتل يوم بدر وقال الضحاك : هو الجوع والقحط سبع سنين وقال البراء بن عازب : عذاب القبر ، والآية تحتمل هذه المعاني كلها (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن العذاب نازل بهم.

(وَاصْبِرْ) أي : أوجد هذه الحقيقة لتصبر على ما أنت عليه من أداء الرسالة (لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي : المحسن إليك فإنه هو المريد لذلك ولو لم يرده لم يكن شيء منه فهو إحسان منه إليك وتدريب لك وترقية في معارج الحكم ، وسبب عن ذلك قوله تعالى مؤكدا لما يغلب على الطبع البشري في بعض أوقات الامتحان من نوع نسيان (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) أي : بمرأى منا نراك ونحفظك ، وجمع لما اقتضته نون العظمة التي هذا سياقها وهي ظاهرة في الجمع ، وإشارة إلى أنه محفوظ بالجنود الذين

١١٤

رؤيتهم من رؤيته سبحانه وتعالى (وَسَبِّحْ) ملتبسا (بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي : المحسن إليك فأثبت له كل كمال من تنزيهك له عن كل نقص فلا يكون في ملكه ما لا يريد ولا يريد إلا ما هو حكمة بالغة (حِينَ تَقُومُ) قال سعيد بن جبير وعطاء : أي قل حين تقوم من مجلسك : سبحانك اللهم وبحمدك فإن كان المجلس خيرا ازددت إحسانا وإن كان غير ذلك كان كفارة له.

وروى أبو هريرة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من جلس مجلسا وكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه : سبحانك اللهمّ وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلا كان كفارة لما بينهما» (١) أي من الذنوب الصغائر. وقال ابن عباس : معناه صل لله حين تقوم من مقامك وقال الضحاك والربيع : إذا قمت إلى الصلاة فقل سبحانك اللهمّ وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدّك ولا إله غيرك ، وقال الكلبي : هو ذكر الله تعالى باللسان حتى تقوم من الفراش إلى أن تدخل في الصلاة لما روى عاصم بن حميد قال : سألت عائشة بأيّ شيء كان يفتتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قيام الليل فقالت «كان إذا قام كبر عشرا وحمد الله تعالى عشرا وهلل عشرا واستغفر عشرا ، وقال : اللهمّ اغفر لي واهدني وارزقني وعافني ، ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة» (٢) وقيل حين تقوم لأمر ما.

(وَمِنَ اللَّيْلِ) أي : الذي هو محل السكون والراحة (فَسَبِّحْهُ) أي : صلّ له قال مقاتل : يعني صلاة المغرب والعشاء (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) أي : صل الركعتين قبل صلاة الفجر وذلك حين تدبر النجوم أي تغيب بضوء الصبح هذا قول أكثر المفسرين وقال الضحاك : هي فريضة صلاة الصبح وهذه الآية نظير قوله تعالى : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) [الروم : ١٧] وقد تقدم الكلام عليها.

قال الرازي : قال تعالى هنا : (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) وقال في سورة ق : (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) [ق : ٤٠] فيحتمل أن يكون المعنى واحدا والمراد من السجود جمع ساجد والنجوم سجود قال تعالى : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) [الرحمن : ٦] وقيل المراد من النجوم نجوم السماء وقيل النجم ما لا ساق له من النبات قال الله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الرعد : ١٥] الآية أو المراد من النجوم الوظائف وكل وظيفة نجم في اللغة أي إذا فرغت من وظائف الصلاة فقل سبحان الله كما مرّ ، وما رواه البيضاوي تبعا للزمخشري من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة والطور كان حقا على الله أن يؤمنه من عذابه وأن ينعمه في جنته» (٣) حديث موضوع.

__________________

(١) أخرجه الترمذي حديث ٣٤٣٣ ، وأحمد في المسند ٢ / ٤٩٤.

(٢) أخرجه ابن ماجه حديث ١٣٥٦ ، وأحمد في المسند ٦ / ١٤٣.

(٣) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٤١٧.

١١٥

سورة النجم

مكية ثنتان وستون آية وثلاثمائة وستون كلمة وألف وأربعمائة وخمسة أحرف

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الذي أحاط بصفات الكمال (الرَّحْمنِ) الذي عمّ الموجودات بصفة الجمال (الرَّحِيمِ) الذي خص أهل ودّه بصالح الأعمال.

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨))

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) قال ابن عباس في رواية العوفي : يعني الثريا إذا غابت وسقطت وهوت مغيبة ، والعرب تسمي الثريا نجما ، وجاء في الحديث عن أبي هريرة مرفوعا «ما طلع النجم قط وفي الأرض شيء من العاهات إلا رفع» (١) وأراد بالنجم الثريا ، وقال مجاهد : هو نجم السماء كلها حين يغرب ، لفظه واحد ومعناه الجمع سمى الكوكب نجما لطلوعه وكلّ طالع نجم يقال : نجم السن والنبت والقرن إذا طلع.

وروى عكرمة عن ابن عباس أنها ما يرجم به الشياطين عند استراقهم السمع وقال أبو حمزة الثمالي : هي النجوم إذا انتثرت يوم القيامة وقيل : المراد بالنجم القرآن سمي نجما لأنه نزل نجوما متفرقة في عشرين سنة ويسمى التفريق تنجيما والمفرّق منجما هذا قول ابن عباس في رواية عطاء ، وقال الكلبي : والهوي النزول من أعلى إلى أسفل وقال الأخفش : النجم هو النبت الذي لا ساق له ومنه قوله تعالى : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) [الرحمن : ٦] وهويه سقوطه على الأرض.

وقال جعفر الصادق : يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نزل من السماء ليلة المعراج والهوي النزول يقال هوى يهوي هويا والكلام في قوله تعالى : (وَالنَّجْمِ) كالكلام في قوله تعالى (وَالطُّورِ) حيث لم يقل والنجوم والأطوار وقال : (وَالذَّارِياتِ) [الذاريات : ١](وَالْمُرْسَلاتِ) [المرسلات : ١] كما مر.

__________________

(١) أخرجه بنحوه أحمد في المسند ٢ / ٢٨٨ ، والحاكم في المستدرك ٣ / ٩٠ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٢١٥٩٩.

١١٦

تنبيه : أوّل هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها فإنه تعالى قال في آخر تلك (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) وقال تعالى في أوّل هذه : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) قال الرازي : والفائدة في تقييد القسم به في وقت هويه أنه إذا كان في وسط السماء يكون بعيدا عن الأرض لا يهتدي به الساري لأنه لا يعلم به المشرق من المغرب ولا الجنوب من الشمال ، فإذا نزل عن وسط السماء تبين بنزوله جانب المغرب عن المشرق والجنوب عن الشمال.

وقوله تعالى : (ما ضَلَ) أي : عن طريق الهداية (صاحِبُكُمْ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقتا من الأوقات ، جواب القسم وعبر بالصحبة لأنها مع كونها أدلّ على القصد مرغبة لهم فيه ومقبلة بهم إليه ومقبحة عليهم اتهامه في إنذاره وهم يعرفون طهارة شمائله (وَما غَوى) أي : وما مال أدنى ميل ولا كان مقصده مما يسوء فإنه محروس من أسباب غواية الشياطين وغيرها.

تنبيه : الغي جهل عن اعتقاد فاسد بخلاف الضلال ، وذهب أكثر المفسرين إلى أن الغي والضلال بمعنى واحد وفرق بعضهم بينهما فقال : الضلال في مقابلة الهدى ، والغي في مقابلة الرشد قال تعالى : (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) [البقرة : ٢٥٦] وقال تعالى (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) [الأعراف : ١٤٦] قال الرازي : وتحقيق القول فيه أنّ الضلال أعم استعمالا في الوضع تقول : ضل بعيري ورحلي ولا تقول غيّ.

فائدة : قد دافع الله سبحانه عن نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمّا باقي الأنبياء فدافعوا عن أنفسهم (لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ) ونحو ذلك قاله القشيري فإن قيل : كيف الجمع بين قوله تعالى : (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ) وبين قوله تعالى : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) [الضحى : ٧] أجيب : بأنّ المراد من الآية الآتية وجدك ضالا عما أنت عليه الآن من الشريعة فهداك إليها بخلاف هذه الآية.

(وَما يَنْطِقُ) أي : يجاوز نطقه فمه في وقت من الأوقات لا في هذا الحال ولا في الاستقبال نطقا ناشئا (عَنِ الْهَوى) أي : عن أمره كالكهان الذين يغلب كذبهم صدقهم ، والشعراء وغيرهم وما يقول هذا القرآن من عند نفسه.

(إِنْ) أي : ما (هُوَ) أي : الذي يتكلم به من القرآن وكلّ أقواله وأفعاله وأحواله (إِلَّا وَحْيٌ) أي : من الله تعالى وأكده بقوله تعالى : (يُوحى) أي : يجدد إليه إيحاؤه منا وقتا بعد وقت.

تنبيه : استدل بهذه الآية من لا يرى الاجتهاد للأنبياء ، وأجيب : بأنّ الله تعالى إذا سوغ لهم الاجتهاد كان الاجتهاد وما يستند إليه كله وحيا لا نطقا عن الهوى.

(عَلَّمَهُ) أي : صاحبكم الوحي الذي أتاكم به ملك (شَدِيدُ الْقُوى) فلا تعجبوا من هذه البحار الزاخرة فإنّ معلمه بهذه الصفة التي هو بها بحيث ينفذ كلّ ما أمره الله تعالى به وهو جبريل عليه‌السلام ، فإنه الواسطة في إبداء الخوارق. روي أنه قلع قرى قوم لوط ورفعها إلى السماء ثم قلبها وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين ، وكان هبوطه على الأنبياء وصعوده في أوحى من رجعة الطرف ، ورأى إبليس يكلم عيسى على بعض عقاب الأرض المقدسة فنفحه نفحة بجناحه فألقاه في أقصى بلاد الهند.

(ذُو مِرَّةٍ) قال ابن عباس : ذو منظر حسن وقال أكثر المفسرين : ذو قوة وقدرة عظيمة على الذهاب فيما أمر به ، والطاقة لحمله بغاية النشاط والحدة كأنه ذو مزاج غلبت عليه الحدة فهو صعب المراس في مزاولته ماض على طريقة واحدة على غاية من الشدّة لا توصف لا التفات له

١١٧

بوجه إلى غير ما أمر به ، فهو مجتمع القوى مستحكم الشأن شديد الشكيمة لا يسأم في شيء يزاوله ، ومن جملة ما أعطي من القوّة القدرة على التشكل وإلى ذلك أشار بما تسبب عن هذا من قوله تعالى (فَاسْتَوى) أي : فاستقام واعتدل بغاية ما يكون من قوّته على أكمل حالاته في الصورة التي فطر عليها.

(وَهُوَ) أي : والحال أنّ جبريل عليه‌السلام (بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) أي : عند مطلع الشمس ، وذلك أنّ جبريل عليه‌السلام كان يأتي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صورة الآدميين كما كان يأتي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبله ، فسأله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يريه نفسه على صورته التي خلق عليها ، فأراه نفسه مرتين مرّة في الأرض ومرّة في السماء ، فأمّا التي في الأرض ففي الأفق الأعلى ، والمراد بالأعلى جانب المشرق وذلك أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان بحراء وكان جبريل واعده أن يأتيه وهو بحراء فطلع له جبريل من المشرق فسد الأفق إلى المغرب فخر صلى‌الله‌عليه‌وسلم مغشيا عليه فنزل له جبريل عليه‌السلام في صورة الآدميين.

(ثُمَّ دَنا) أي قرب منه (فَتَدَلَّى) أي زاد في القرب.

(فَكانَ) منه (قابَ) أي قدر (قَوْسَيْنِ) أي عربيتين (أَوْ أَدْنى) من ذلك وضمه إلى نفسه حتى أفاق وسكن روعه وجعل يمسح التراب عن وجهه ، وأمّا في السماء فعند سدرة المنتهى ولم يره أحد من الأنبياء في صورته الحقيقية غير محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

تنبيه : القاب والقيب والقاد والقيد والقيس المقدار ، وقد جاء التقدير بالقوس والرمح والسوط والذراع والباع والخطوة والشبر والفتر والأصبع ومنه «لا صلاة إلى أن ترتفع الشمس مقدار رمحين» (١) وفي الحديث «لقاب قوس أحدكم من الجنة وموضع قده خير من الدنيا وما فيها» (٢) والقد : السوط ، ويقال بينهما خطوات يسيرة وقال الشاعر (٣) :

وقد جعلتني من خزيمة أصبعا

فإن قيل : كيف تقدير قوله : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ) أجيب : بأنّ تقديره فكان مسافة قربه مثل قاب قوسين فحذفت هذه المضافات كما قال أبو علي في قوله : وقد جعلتني من خزيمة أصبعا أي ذا مقدار مسافة أصبع.

وروى الشيباني قال : سألت زرا عن قوله تعالى : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) قال أخبرنا عبد الله يعني ابن مسعود «أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح» (٤) وبهذا قال ابن عباس والحسن

__________________

(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

(٢) أخرجه البخاري في الجهاد حديث ٢٧٩٦ ، والترمذي في فضائل الجهاد باب ١٧ ، وأحمد في المسند ٢ / ٤٨٢ ، ٤٨٣ ، ٣ / ١٤١ ، ١٥٣.

(٣) صدره :

فأدرك إبقاء العرادة ظلعها

والبيت من الطويل ، وهو للكحلبة اليربوعي في خزانة الأدب ٤ / ٤٠١ ، وشرح اختيارات المفضل ص ١٤٦ ، ولسان العرب (حرم) ، (بقي) ، وللأسود بن يعفر في ملحق ديوانه ص ٦٨ ، ولرؤبة في مغني اللبيب ٢ / ٢٦٤ ، وليس في ديوانه.

(٤) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ١٧٤.

١١٨

وقتادة ، وقال آخرون : دنا الرب عزوجل من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتدلى فقرب منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى ، ومعنى دنوه تعالى : قرب منزلة كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حكاية عن ربه تبارك وتعالى «من تقرّب إليّ شبرا تقرّبت إليه ذراعا ومن تقرّب إليّ ذراعا تقرّبت إليه باعا ومن مشى إليّ أتيته هرولة» (١) وهذا إشارة إلى المعنى المجازي قال البغوي : وروينا في قصة المعراج من رواية شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس : فدنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى وهذه رواية أبي سلمة عن ابن عباس وقال مجاهد : دنا جبريل من ربه وقد قدّمت الكلام على المعراج وعلى جواز رؤيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ربه في أوّل الإسراء. وقال الضحاك : دنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ربه عزوجل فتدلى فأهوى للسجود فكان منه قاب قوسين أو أدنى وتقدّم الكلام على القاب ، والقوس : ما يرمى به في قول مجاهد وعكرمة وعطاء عن ابن عباس ، فأخبر أنه كان بين جبريل عليه‌السلام ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقدار قوسين. وقال مجاهد : معناه حيث الوتر من القوس وهذا إشارة إلى تأكيد القرب والأصل في ذلك أنّ الحليفين من العرب كانا إذا أرادا الصفاء والعهد خرجا بقوسيهما فالصقا بينهما يريدان بذلك أنهما متظاهران يحامي كل واحد منهما عن صاحبه ، وقال عبد الله بن مسعود : قاب قوسين قدر ذراعين وهو قول سعيد بن جبير ، والقوس الذراع يقاس بها كل شيء أو أدنى بل أقرب وإنما ضرب المثل بالقوس لأنها لا تختلف بالقاب.

(فَأَوْحى) أي الله تعالى وإن لم يجر له ذكر لعدم اللبس (إِلى عَبْدِهِ) أي جبريل عليه‌السلام (ما أَوْحى) أي جبريل عليه‌السلام إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يذكر الموحي تفخيما لشأنه وهذا التفسير ما جرى عليه الجلال المحلي وهو ظاهر ، وقيل : فأوحى إلى جبريل بسبب هذا القرب وعقبه إلى عبده أي عبد الله ما أوحى أي جبريل وقيل الضمائر كلها لله تعالى وهو المعني بشديد القوى كما في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات : ٥٨] ودنوه منه برفع مكانته وتدليه جذبه بكليته إلى جانب القدس ، واختلف في الموحى على أقوال الأول قال سعيد بن جبير : أوحى إليه (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً) [الضحى : ٦] إلى قوله تعالى : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) [الشرح : ٤] الثاني : أوحى إليه الصلاة. الثالث : أن أحدا من الأنبياء لا يدخل الجنة قبلك وأنّ أمة من الأمم لا تدخلها قبل أمتك. الرابع : أنه مبهم لا يطلع عليه أحد وتعبدنا به على الجملة. الخامس : أنّ ما للعموم والمراد كل ما جاء به جبريل.

(ما كَذَبَ الْفُؤادُ) أي : فؤاد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ما رَأى) أي : ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه‌السلام ، وهذا أيضا ما جرى عليه الجلال المحلي. وقال البقاعي : ما رأى البصر أي حين رؤية البصر كأنه حاضر القلب لا أنها رؤية بصر فقط يمكن فيها الخلو عن حضور القلب وقال القشيري ما معناه : ما كذب فؤاد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما رآه ببصره على الوصف الذي علمه قبل أن رآه ، فكان علمه حق اليقين وقرأ هشام بتشديد الذال والباقون بالتخفيف.

وقوله تعالى : (أَفَتُمارُونَهُ) أي : تجادلونه وتغلبونه (عَلى ما يَرى) خطاب للمشركين المكذبين رؤية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجبريل ، وهذا ما قاله ابن مسعود وعائشة. ومن قال : إنّ المرئي هو الله

__________________

(١) أخرجه البخاري في التوحيد حديث ٧٤٠٥ ، ومسلم في التوبة حديث ٢٦٧٥ ، والترمذي في الزهد حديث ٢٣٨٨.

١١٩

تعالى اختلفوا في معنى الرؤية فقال بعضهم : جعل بصره في فؤاده فرآه بفؤاده وهو قول ابن عباس قال : رآه بفؤاده مرّتين ما كذب الفؤاده ما رأى ، وقال أنس والحسن وعكرمة : رأى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ربه عزوجل بعينه ، وروى عكرمة عن ابن عباس قال : إنّ الله تعالى اصطفى إبراهيم عليه‌السلام بالخلة واصطفى موسى عليه‌السلام بالكلام واصطفى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرؤية وكانت عائشة تقول لم ير محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ربه وتحمل الرؤية على رؤية جبريل قال مسروق قلت لعائشة : يا أمّتاه هل رأى محمد ربه فقالت لقد قف شعري مما قلت ، أين أنت من ثلاث من حدّثكهنّ فقد كذب؟ من حدّثك أنّ محمدا رأى ربه فقد كذب ثم قرأت (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام : ١٠٣](وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) [الشورى : ٥١] ومن حدّثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب ، ثم قرأت (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) [لقمان : ٣٤]. ومن حدّثك أنه كتم شيئا مما أنزل الله تعالى فقد كذب ، ثم قرأت (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) [المائدة : ٦٧] الآية ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين» (١) ، وروى أبو ذر قال سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل رأيت ربك «قال نور أنّى أراه» (٢) وحاصل المسألة : أنّ الصحيح ثبوت الرؤية وهو ما جرى عليه ابن عباس حبر الأمّة ، وهو الذي يرجع إليه في المعضلات ، وقد راجعه أبو عمرو فأخبره أنه رآه ولا يقدح في ذلك حديث عائشة ، لأنها لم تخبر أنها سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لم أر وإنما اعتمدت على الاستنباط مما تقدم وجوابه ظاهر ، فإنّ الإدراك هو الإحاطة والله تعالى لا يحاط به وإذا ورد النص بنفي الإحاطة لا يلزم منه نفي الرؤية بغير إحاطة ، وأجيب عن احتجاجها بقوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ) [الشورى : ٥١] الآية بأنه لا يلزم من الرؤية وجود الكلام حال الرؤية فيجوز وجود الرؤية من غير كلام ، وبأنه عام مخصوص بما تقدّم من الأدلة.

وأمّا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نور أنّى أراه» فقال الماوردي : الضمير في أراه عائد إلى الله تعالى ومعناه : إنه خالق النور المانع من رؤيته أي رؤية إحاطة كما مرّ إذ من المستحيل أن تكون ذات الله نورا إذ النور من جملة الأجسام والله تعالى منزه عن ذلك فإن قيل : هلا قيل أفتمارونه على ما رأى بصيغة الماضي لأنهم إنما جادلوه حين أسري به فقالوا : صف لنا بيت المقدس وأخبرنا عن عيرنا في الطريق وغير ذلك مما جادلوه به وما الحكمة في إبرازه بصيغة المضارع أجيب : بأنّ التقدير أفتمارونه على ما يرى فكيف وهو قد رآه في السماء فماذا تقولون فيه.

والواو في قوله تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ) يحتمل أن تكون عاطفة ويحتمل أن تكون للحال أي : كيف تجادلونه فيما رآه وهو قد رآه (نَزْلَةً أُخْرى) على وجه لا شك فيه.

تنبيه : قوله تعالى : (نَزْلَةً) فعلة من النزول كجلسة من الجلوس فلا بدّ من نزول ، واختلفوا في ذلك النزول. وفيه وجوه :

الأوّل : أنّ الضمير في رآه عائد إلى جبريل أي جبريل نزلة أخرى أي رأى جبريل في صورته التي خلق عليها نازلا من السماء مرّة أخرى وذلك أنه رآه في صورته مرتين مرة في الأرض ومرّة في السماء (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) قال الرازي : ويحتمل أن تكون النزلة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير القرآن حديث ٤٨٥٥ ،

(٢) أخرجه الترمذي حديث ٣٢٨٢.

١٢٠